طوفان الأقصى- من هزيمة نفسية إلى فتح قريب

في خضم الأحداث الثقافية والسياسية المتلاطمة التي أعقبت ثورة 2011 في مصر، والتي استأثرت باهتمام الجموع، ووسط زخم الأنشطة الفكرية التي عمت البلاد، دُعيت لإلقاء محاضرة عامة في رحاب مكتبة الإسكندرية. خلال تلك الفعالية، وُجه إليّ سؤال جوهري يتعلق بآرائنا حول كيفية بناء علاقات مع إسرائيل.
لقد كانت إجابتي قاطعة ومباشرة: "أدعو إلى إقامة علاقة طبيعية بيننا وبين إسرائيل!"
تسبب هذا الرد المفاجئ في حالة من الذهول والاستغراب لدى أغلب الحاضرين. كان ذلك على الرغم من أن موقفي المناهض لاتفاقية كامب ديفيد كان معروفًا للجميع وغير قابل للشك، وموثقًا في مختلف طبعات كتابي "في النظام السياسي للدولة الإسلامية". بالإضافة إلى ذلك، كان رفضي القاطع للتطبيع بكل أشكاله مع الكيان الصهيوني الغاشم أمرًا شائعًا، ومعبرًا عنه في العديد من المقالات والظهورات التلفزيونية.
وفي فترة ليست ببعيدة قبل تلك المحاضرة، خضتُ نقاشًا حادًا مع شيخ الأزهر آنذاك، عبر صفحات الجرائد المصرية، وذلك بعد استقباله لحاخام صهيوني. وقد رد الشيخ على منتقديه قائلًا: "لقد تحدثت معه حول الحق الفلسطيني، وأكدت على ضرورة تخفيف القبضة الصهيونية على أهل فلسطين..." أو ما شابه ذلك. حينها، كتبتُ مقالًا عنونتُه: "يا سيدي شيخ الأزهر.. ليتك لم تقابله ولم تقل له".
تبع ذلك موقف آخر لوكيل الأزهر في ذلك الوقت، حيث نشرت له الصحف المصرية والصهيونية صورة وهو يمسك بذراع حاخام صهيوني أثناء خروجهما من اجتماع في مؤتمر بأحد الدول الأوروبية. وعندما سألته الصحف عن هذه الصورة، أجاب بما معناه أنه لا يرى أي خطأ في ذلك، معتبرًا أنّه أمسك بذراع زميل له كرجل دين. فرددت على هذا الموقف بمقال عنوانه: "تأبط شرًا".
ترحيب حافل
كان كل ما ذكرت حاضرًا في أذهان الجمهور الغفير الذي ملأ القاعة الرئيسية بمكتبة الإسكندرية. لذا، كان الاستغراب والوجوم أمرًا مفهومًا، وكانت علامات الاستفهام مرتسمة على الوجوه بشكل واضح!
لكن، بعد ذلك مباشرة، وضحت مقصدي قائلًا: "العلاقة الطبيعية مع إسرائيل هي علاقة عدو بيننا وبينه هدنة، ولكن كلّ هدنة مصيرها الانتهاء، ولا توجد في هذا العالم معاهدة أبدية لا يمكن نقضها."
لا يمكن وصف مدى الترحيب والاحتفاء الذي قوبلت به هذه الإجابة من قبل الحضور، فقد فاقت كل التوقعات.
سيطرة ظالمة
منذ أن مكنت القوى الاستعمارية، وبمساعدة بعض الخيانات العربية، الكيان الصهيوني المغتصب من الاستيلاء على أرض فلسطين، لم نشعر تجاهه إلا بالعداوة الشديدة. هذه العداوة نابعة من اغتصاب الحق العربي الأصيل، والسيطرة الغاشمة والغير مشروعة على المقدسات المسيحية والإسلامية، والاعتداءات المتواصلة على الإنسان والأرض، وسلب خيرات البلاد وإنكار حقوق أصحابها الشرعيين.
هذه العداوة دفعت أهل فلسطين، أصحاب الحق، إلى القيام بمحاولات عديدة لمقاومة هذا العدو باستخدام وسائل بدائية، كانت هي الوسائل الوحيدة المتاحة لهم. وفي كل مرة، كان العدو الصهيوني يتمكن من القضاء على محاولات أصحاب الحق لاستعادة أرضهم، مستخدمًا قوة عسكرية غاشمة لا تحترم قانونًا، ولا تلتزم بأخلاق، ولا يردعها عن الظلم والطغيان أي وازع إنساني أو قيمة أخلاقية.
وفي المقابل، كانت هناك فئة قليلة مؤمنة بالحق العربي، وكارهة للاحتلال الصهيوني، مرابطة على أرض فلسطين، تعد العدة قدر استطاعتها، وتبني نفوس الرجال والنساء على الإيمان بالله، واليقين بصدق وعده. كانوا يبشرونهم بحديث رسول الله ﷺ الذي رواه أبو أمامة الباهلي وغيره: "لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء (الشدة والضيق) حتى يأتي أمر الله وهم كذلك". وفي بعض الروايات، سُئل الرسول ﷺ: يا رسول الله وأين هم؟ قال: "ببيت المقدس، وأكناف بيت المقدس".
هؤلاء المرابطون، بغض النظر عن انتماءاتهم التنظيمية، هم من هذه الطائفة، الثابتة على الحق، العاملة لنصرته، المقدمة أموالها وأرواحها في سبيله، والمنصورة في النهاية بإذن الله على عدوها.
هؤلاء المرابطون هم من فجروا مفاجأة السابع من أكتوبر 2023، الموافق 22 من ربيع الأول 1445 هجري (طوفان الأقصى).
إن هذا العمل البطولي هو الشرارة التي بدأت حرب التحرير الشاملة في فلسطين، والخطوة الأولى الحاسمة في طريق زوال إسرائيل وعودة الوطن السليب إلى أصحابه. ولكي يتأكد المرء من صحة ذلك، فليتذكر أن "طوفان الأقصى" هو المعركة الأولى في تاريخ الصراع مع هذا العدو، التي يبدأ فيها أصحاب الحق بالهجوم على المعتدين الغاصبين.
نعم، إنها المرة الأولى التي نمسك فيها بزمام المبادرة، ونتحرك بفاعلية بدلًا من رد الفعل. ولا أقول إنها المرة الأولى منذ عام 1948، بل هي المرة الأولى منذ بداية الاستيطان الصهيوني تحت رعاية بريطانية، التي نفعل فيها ذلك.
لقد أخرجنا "طوفان الأقصى" والمرابطون الذين نفذوه من قيود "المفعول به" إلى حرية "الفاعل". وإنه لخبر عظيم لو تعلمون.
هزيمة معنوية
وكما عرفت الأرض المقدسة "المرابطين" الأبطال، عرفت أيضًا أصنافًا من "المرجفين" المثبطين الذين تفضح أقوالهم ما تخفيه قلوبهم من هزيمة نفسية، وما يعيشون فيه من استحواذ الشياطين عليهم حتى أنسوهم وعد الله بالنصر: {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد يوم لا ينفع الظالمين معذرتُهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار} [غافر: 51-52].
يقول هؤلاء المرجفون: ماذا استفاد أهل فلسطين من هذه الحرب التي شنها المقاومون (المرابطون) ضد "دولة إسرائيل"؟! قتل الآلاف، وإصابة أضعافهم، وهدم نسبة كبيرة من البيوت، بل الأحياء السكنية بأكملها، على رؤوس قاطنيها! ثم يزعمون أنه لن يكون لنا نصر، مهما حاولنا، على أقوى دولة في الشرق الأوسط، وخامس أو سابع جيش في العالم.
هؤلاء يتجاهلون، أو يتناسون، أنهم يبكون على هدم الحجر، دون أن يلقوا بالًا لحقوق البشر. ويتجاهلون أن الذين بنوا غزة أول مرة قادرون على بنائها مرات عديدة.
إنهم يتجاهلون أن الموت بكرامة وعزة وشجاعة أفضل ألف مرة، عند ذوي العقول، من الحياة في ذل واستسلام.
وهم يتجاهلون قول الله تبارك وتعالى لنبيه وأصحاب نبيه: {وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 104].
إنهم يتجاهلون، عندما يعيروننا بشهداء المرابطين، ما قاله عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) لأبي سفيان في معركة أحد عن قتلى المشركين وشهداء المسلمين: "ليسوا سواءً، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار".
فتح مبين
لا يعلم الغيب إلا الله وحده، ولا يعلم متى سيتوقف القتال، ومتى سنتوقف عن الكتابة عن المرابطين والمرجفين. ولكن بعد مضي مائة وستة عشر يومًا، نرى أنفسنا أقرب بكثير إلى يوم الفتح، يوم زوال الدولة الصهيونية الغاصبة، مما كنا عليه يوم انطلاق "طوفان الأقصى".
لا أدعي أن هذا سيحدث غدًا، ولكن أقول ما قاله رب العالمين: {وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا} [الإسراء: 51].
والحديث متواصل إن شاء الله، والحمد لله رب العالمين.
